قبل عامين من حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل، أي قبل ما يُفتح النقاش حول استحقاقه للجائزة مقارنة بالأديب يوسف إدريس، وقبل ما يُفتح المجال لروايات النميمة والصدق حول غضب “الثاني” من عدم حصوله على الجائزة. كان يوسف إدريس قد اعترف بأن “محفوظ” وتوفيق الحكيم أحق منه بالجائزة وذلك في حواره لمجلة “الهلال” سبتمبر 1986. إذ قال متخليًا عن “نرجسيته” “إذ عُرضت علىّ نوبل سأقبلها، وإن كنت أرى أن نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم أحق مني بالجائزة”.
يوسف إدريس
المشاهد التي تخلى فيها “إدريس” عن “نرجسيته” قليلة وشحيحة، المفارقة أنه في حوار نُشر في مجلة “الكرمل” عام 1984 بعنوان يؤكد على ذاتيته وتطاوسه “أنا، أنا، أنا فقط”، تخلى الأديب الراحل عنهما وعبّر تحت سطوة الحكي عن حرمان عاطفي ومادي لم يُشفى من آلامهما أبدًا “تعبت كثيرًا، ولا أريد أن أذكر هذا التعب”.
أرسلت الأسرة طفلها “يوسف” في سن الخامسة، ليتعلم في مدرسة بعيدة، وأوكلت تربيته لأم جده “كانت تعتني بي أم جدي، امرأة عجوز، في الخامسة والأربعين من العمر، كانت ظريفة، تحكي لي حكايات، ولكنها كانت تضربني أيضًا”.
كانت الأحلام ملاذًا من حرمان “يوسف” من والديه، يراهم كل ليلة يأكل ويعيش ويلعب معهم “وكانت أمي تحتضنني، وأري الحلم نفسه كل ليلة”.
تزوج والد يوسف إدريس ثلاث مرات، بعد أن مات جميع أولاده من الذكور، الثالثة كانت أمه، وهو أول ذكر يعيش “دللوني أربع سنوات، كنت ملكًا، فجأة انتقلت إلى أسرة بروليتارية، تستيقظ باكرا تأكل القديد، أما أنا ما كنت أفهم لماذا أنا بعيد، لماذا هذا الانتقال المفاجئ، ولذلك أدركت مبكرا معنى الفقر”.
عقدة يوسف إدريس
الحرمان العاطفي الذي يعانيه “يوسف” أضيف إليه الحرمان المادي، خلق أشياء خطيرة بداخله، لم يستطع التخلص منها “لذلك أتعاطف مع أولئك المحرومين من القوت أو العاطفة، وهم كثيرون جدا، كما أدركت فيما بعد”.
تشكلت عقدة نفسية داخل “إدريس”، تعلّم من الحرمان أن يخفي عواطفه ومشاعره “تعلمت أن أخفي حبي، إذا أحببت امرأة لأنني أخاف أن تحرمني من حبها، كما حرمتني أمي، تعلمت أن أحافظ على عواطفي داخلي ولا أظهرها”. وعاش خائفًا من أن يؤتى من عواطفه، أن يحذله ذلك الشخص الذي يحبه، كما لدغ وهو طفل من أهله.
عاش “إدريس” تحت وطأة العقدة، يحب الناس، لا يكره أحدا، يبحث فيهم عن عائلته التي لم يعشها، عن أب وأخ وأم وعن الأصعب “حبيبة”.
القبلة الأولى كابن حصل عليها الأديب الراحل من أمه وهو في الحادية والعشرين من عمره ” لم تقبلني أمي قبلها أبدا، أنا المحروم من الحنان”.
في إحدى السهرات كانت أم شابة تحتضن طفلها الصغير، تمرر يدها على ظهره بحنان، و”إدريس” يراقب الموقف، كان يرغب دائما في هذا الحضن الحنون الذي حُرم منه “عندما رأيت هذا لموقف كدت أبكي، عندما رأيت تلك الأم وطفلها، عرفت كيف يمكن للأم أن تنمي عند صغيرها ذكورته، أنا كنت مضروبا، ممنوعا، لذا كنت بحاجة إلى وقت طويل كي اكتشف أني والد، مرغوب ومطلوب، وأن حواء لا تكرهني”.
تمنى يوسف إدريس من المرأة التي تحبه، ألا تلتفت إلى وسامته، أن تعترف له بحبها أولًا، فكل مغامراته الكثيرة مع النساء كانت بحثا عن الحنان. لم يكن مقتنعا بوسامته “كنت لا أرى وجهي أو لا أريد أن أراه لدرجه أني كتبت قصة قصيرة عن رجل نظر إلى نفسه في المرآة فلم يجد وجهه أبدان أتمنى أحيانا أن أشف حتى لا يراني الناس، وفي أحيان أخرى أتمنى لو أن الله خلقني بطريقة أخرى، لست راضيا عن شكلي، الناس هي التي تقول لي هذا، ولكنني لست مقتنعا”.