“في شهر ديسمبر، شدي البرودة، ستحصل على طعام جيد وفرصة عمل، لكن عليك الاستحمام أولًا، أخلع ثيابك وانتظر هنا بجوار المدفأة، حتى تصل مقطورة صغيرة تقودك للحمام”.
خديعة، كان يغرر بها الغجري لاقتياده لأفران الغاز، فلم تكن المقطورات سوى وحدات إعدام بالغاز تحمل الموتى، وبعدها إلى القبور الجماعية في الغابات، قبل أن تجئ شحنة أخرى من المستحمين.
الغجر سلالة منحطة لا تستحق الحياة، يجب أن يُشنقوا دون أية محاكمة فطريقة حياتهم شرعية غير قانونية. على هذه الأساس انتهجت ألمانيا عام 1714، وروسيا 1725، سلوكهم في تعاملهم مع الغجر.
“دونا تشك” أحد الباحثين في تاريخ الغجر، ترى أن معاناة الغجر كبيرة، مرت دون أن يُسلط عليها المؤشرات ليعرف البشر تلك المعنى الحقيقي لتلك المعاناة.
“إنه المكان الأكثر قسوة الذي شاهدته في حياتي، تراءي لي الغجر وهم مرضى وجوعى وعراة يحاصرهم الموت، يساقون إلى أفران الغاز. تراءت لي بقايا الجثث في أقبية المعسكر، شعرت بأن آلاف العيون تراقبني وتناشدني، لم أستطع إيقاف سيل الدموع الذي ملأ وجهي، عيون الغجر قالت لي في صمتها: لا تسمحوا بتكرار تلك الفظائع لأنكم ستكونون الضحايا”. بهذه الطريقة عبرت إحدى المشاركات في المؤتمر العالمي للغجر، لاستذكار ضحايا معسكرات الموت وأفران الغاز من الغجر، متخذًا من بعض المعسكرات مكانًا لإقامة تلك الطقوس.
الغجر في أفران الغاز
كان أوتو فون بسمارك السياسي الأول الذي فرّق بين الغجري الأصلي والغجري الأجنبي، واستخدمت هذه التفرقة فيما بعد لطرد غير المرغوب فيهم من الغجر، حتى الذين ولدوا في ألمانيا، ثم شرع الأمير فريدرك ويليام قانونًا حرّم من خلاله ممارسة التجارة من الغجر، وبعده بربع قرن صرح أدولف فريدرك أمير مقاطعتي ميكليبرغ وستريلتز تميز الغجر لتعذيبهم وطردهم خارج البلاد دون أن يرتكبوا أية جرائم أو توجه لهم التهم، وإذا عادوا يقتلون، في الوقت الذي يؤخذ منهم أطفالهم دون سن العاشرة ويودعوا لدى الأسر الألمانية، وبعدها بعام أباح الأمير أغسطس الأول رمي الغجر بالرصاص أذا قاوموا اعتقالهم.
وفي عام 1929 لاحقت محكمة ميونخ الغجر، وشرّعت قانونًا يقضي بعدم السماح بانتقال الغجر من منطقة إلى أخرى داخل ألمانيا إلا بموافقة السلطات الأمنية، وأجبرت الشباب الغجري ممن تتجاوز أعمارهم السادسة عشرة على العمل في أعمال نظافة المؤسسات الرسمية الكبرى، إلى بداية الثلاثينات من القرن الماضي والأزمة الاقتصادية التي حلت بألمانيا، فسرحت العديد من موظفيها، وهيمن الحزب النازي على السلطة، وكان “هتلر” هو واجهة الحزب.
حصر النازيون أعداد الغجر في ألمانيا، ووضعوهم في قوائم خاصة، وصلت لأكثر من 30 ألف غجري، حددوا فيها فصيلة الدم وألوان العيون وحجم الجماجم، لتكون عملية التوثيق هذه من أدق العمليات والخطورة في وقت واحد، حسبما أشار جمال حيدر في دراسته عن الغجر.
الطبيب الألماني هانس جلوبك قال عام 1936 أمام الرأي العام، أن عروق الغجر تجري فيها دماء غريبة، أشبه المخلوقات الفضائية، والطبيب ريتير عينة أعلن أنه استنتج من تحليل دماء الغجر، أنه لا يمكن مقارنة صفاء دماء العرق الآري مع دماء الغجر، وأن تلك الدماء الملوثة خطر حقيقي على صفاء دماء الألمان. حسبما جاء في سيرة الغجر، لإيزابيل فونيسكا، ترجمة عابد إسماعيل.
وتزايد سوء معاملة الغجر في ألمانيا، باعتبارهم فئة منحطة من المجرمين واللصوص والمشعوذين، وكونهم خطر كبير على النسيج الاجتماعي الألماني، واعتقلت منهم أعداد كبيرة بين عامي 1937- 1938 وأودعتهم في معسكرات الموت، ووصلت أعداد الاعتقالات لـ300 غجري يوميًا.
وخصصت لهم معسكر خاص للاعتقال، في غرف ضيقة، بملابس مخططة ذات علامة مثلث صفراء داكنة اللون تعتلي صدورهم، لتميزهم عن بقية المعتقلين، ووشمت معاصمهم بأرقام خاصة، وأمرت السلطات بمنحهم أقل كمية من الطعام كوسيلة لقتلهم ببطء، وأجبرتهم على العمل في ظروف قاسية في الشتاء، وفارق الحياة أكثر من 2000 معتقل بسبب الجوع والبرد، ومن بقي منهم تحول لحقل تجارب للأدوية المصنعة حديثًا، حتى المسببة للموت أو التشويه، حتى أسنانهم ساومهم عليها الجنود الألمان، يأخذ مقابلها رغيف من الخبز أو يستريح من العمل المضني.
العديد من غجر من بولندا، أعدموا رميًا بالرصاص من قبل شرطة ألمانيا السرية، وكان عددهم في حدود 3 آلاف غجري، وفي خلال أيام بلغ عددهم 4 آلاف، بعد أن أطلقوا عليهم الألقاب والصفات العنصرية كالدماء الغريبة والعناصر المنحطة والموتى الأحياء.
وبلغ الأمر، إلى أن وصلت أطروحات من المفكرين الموالين للنازية، بأن الغجر أعداد فائضة عن الحاجة، ولابد من التخلص منهم، فجهزت لهم القبور ليدفنوا فيها أحياء، وزاد الأمر، فمنع الأطباء الألمان الغجر من الاقتراب من الأنهار كي لا تتلوث، كونهم يشكلون تهديدًا للصحة العامة في الأراضي الألمانية.
وعند دخول الألمان لأراضي الاتحاد السوفيتي، شحنوا الغجر إلى معسكرات الموت، وبعد انسحابهم تم الكشف عن مقابر جماعية، دفن فيها الغجر أحياء، تم قتلهم بزريعة أن الغجر جواسيس ولابد من التخلص منهم، ووصل العدد لـ250 ألف غجري تقريبًا.
وكشفت منظمة الدفاع عن الحقوق المدنية في يوغسلافيا السابقة أن القوات الألمانية قتلت ما يقارب 28 ألف غجري في صربيا وحدها، والمؤرخ “جوزيف بوم” قدر عدد الغجر ضحايا الغجر نجو نصف مليون غجري خلال الأعوام الممتدة من احتلال بولندا إلى فترة تحريرها.
في فرنسا، كانت الحرب العالمية الثانية أكثر الفترات ألمًا في تاريخ الغجر، فخصص لهم 11 معتقلًا، كان الأطفال في تلك المعتقلات يتشاجرون للبحث عما يسد جوعهم بين مخلفات الجنود الألمان، وسمحت السلطات للشباب للخروج والبحث عن العمل مقابل حصول مسؤولي المعتقل على النصيب الأكبر من رواتبهم.
غجر بلغاريا، الدنمارك، فنلندا، اليونان، شهدوا العذابات والآلام فترة الاحتلال النازي لتلك الدول، كما بحثت فرق النازية العسكرية في العديد من الدول عن الغجر لإبادتهم بحجة تخليص البشرية من العناصر الفاسدة.
وجوه شاهدة
الدكتور “فوغل” طبيب سجين وأحد الناجين من معسكر “لودذ”، قال بعد تحريره أنه أُجبر على توقيع شهادات وفاة تحت ذرائع أزمات قلبية لعدد من الغجر الذين شنقوا أو ماتوا خنقًا.
وحسب رواية أحد الضباط الألمان المشرفين على معسكرات اعتقال الغجر، أن الغجري لن يستطيع العيش في الاعتقال وقتها أكثر من ثلاثة أشهر، إلا إذا كان لصًا يسرق الأطعمة أو حصص الآخرين، وفي السويد روى ضابط آخر، بأنه فضّل المعتقلين الغجر عن ذويهم، لأنهم كانوا يواجهون القسوة والجوع بالغناء، ولم يأخذوا القرارات القاسية على محمل الجدية، فقد قاموا كل هذه القسوة بالحيل.
أما “ورنج” أحد الغجر الناجين من عملية اعتقال عدد كبير من الغجر في ربيع 1943 في مدينة “تربلاكا”، قال، أنه في فترة اعتقاله كان يعمل بجانب بوابة المعسكر، رأى أعدادًا من الغجر اعتقلت وقيدوها للمعسكر، وكانت هي المجموعة الثالثة التي يراها، عددا يقارب الألف، ربعها من الرجال والبقية أطفال ونساء، وتم إحراقهم في أفران الغاز.
جاء في سيرة الغجر، لإيزابيل فونيسكا، أن كالمان ووكويتش أحد السجناء الذين عملوا في المستشفيات، أن الغجر لم يعالجوا في أي مكان، وتذكر الوقت الذي توقفت فيه الموسيقى التي تأتي من معسكر الغجر، إثر الأوامر التي نصت على منع الموسيقى، وساد الصمت الذي تبعه صوت عال من الشرطة السرية وصراخ الضحايا من شدة التعذيب.
أما إبرام روزنبرغ، عمل في المعسكر كحفار قبور، كان ينقل الموتى ويدفنهم في مقابر جماعية، يروي، أنه كان هناك ثلاث إلى أربع شاحنات يوميًا، وفي كل شحنة يوجد ثماني إلى عشر جثث، من بينهم أطفال ورجال مسنون، معظم الجثث مشوهة، وبعضها مصاب بكدمات في الرقبة، تدل على أنهم ماتوا شنقًا.
لا تعويض
تقدم الآلاف من الغجر الذين ظلوا على قيد الحياة، بطلبات تعويض إلى المحاكم الألمانية، باعتبارهم ضحايا النازية، كبقية اليهود، لكنها رُفضت باعتبارها متأخرة زمنيًا.
المحاكم التي شُكلت بعد سقوط النازية، لم تستدع أي من الشهود الغجر، ولم تعترف بالمجازر التي ارتكبت ضدهم إلا في عام 1982، وأقرت بعدم شرعية أبناء الضحايا بالتعويضات.