كان منصب شيخ الأزهر وقت الحكم العثماني لمصر، يخصص لرئيس العلماء الأزهريين منذ القرن الثامن عشر، وكثيرا ما تُرجم بـ “عميد الأزهر”.
منذ نشأة المنصب وهو على درجة عالية من الأهمية، إذ لم توضع إجراءات واضحة لاختيار من يتولاه.
تنافس على المنصب الفرق والمذاهب وكان التعيين يشوبه قدر من العنف والتوترات بين العلماء ومجتمع الأزهر بصفة عامة.
معارك تعيين شيخ الأزهر
ذكر محمد إبراهيم سليم في كتابه الذي ترجمه عن مايكل ونتر “المجتمع المصري تحت الحكم العثماني”، الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ما وقع من معارك حول اختيار من يمثل منصب شيخ الأزهر.
كان من بين أول ستة مشايخ للأزهر، خمسة فقهاء من المذهب المالكي، ولم يبدأ احتكار الشافعية للمنصب إلا بعد المنصب السادس.
أول شيخ للأزهر كان محمد بن عبد الله الخراشي، تلاه محمد النشرتي.
إثر وفاة “النشرتي” 1709 ميلاديا، نشب صراع عنيف أدى إلى قتل عدد من أتباع الشيخين، النفراوي والقليني، جاء في الكتاب :” وبعد أن وبخ نقيب الأشراف الشيخين في الديوان على سلوك أتباعهم، عُين القليني”.
بعد “القليني” عُين الشيخ محمد شنن، الذي كان ثريا لامتلاكه الأراضي ووصفه بأنه “رجل أعمال”.
تمكن “شنن” من اقناع الباب العالي بالتبرع بخمسين كيسا، ليجري إصلاحات في الأزهر، ثم ساعم إسماعيل بك، الرجل القوي في مصر، بثلاثة عشر كيسا أخرى.
الشيخ الذي خلف “شنن” كان إبراهيم موسى، وُصف بأنه رجل دنيا وأهمل إدارة المؤسسة.
الدمنهوري شيخ الأزهر الشافعي
كان الشيخ عبد الله الشبراوي أول شيخ من المذهب الشافعي يتولى المنصب، وجمعته علاقات جيدة مع الامراء، وُصف بأنه دارسا مهما، وشاعرا جمع لعلي باشا بن الحكيم تاريخا لمصر، وشعر العلماء بالكرامة والوقار تحت زعامته.
تبع “الشبراوي” الشيخ محمد بن سالم الحفني أو “الحفناوي” الذي كان صوفيا خلوتيا، وتبعه عبد الرؤوف السجيني.
أما شيخ الأزهر التالي، كان أحمد عبد المنعم الدمنهوري، الذي لم يكن معروفا بمذهب معين، إذ تلقى إجازات من علماء من جميع المذاهب الفقهية، لذا لُقب بـ”المذهبي”.
بلغ “الدمنهوري” الثراء والنفوذ بعدما كان معدما فقيرا، أغدق عليه الأمراء بالهبات والعطايا، يؤكد “سليم” أنهم كانوا يحترمونه لتعبيره عن رأيه بقوة.
صراع طويل على منصب شيخ الأزهر
بعد وفاة “الدمنهوري” نشب صراع طويل على المنصب، بين الشافعية والحنفية، وطمح الشيخ عبد الرحمن بن عمر العريشي في المنصب، رغم فرصته الضئيلة، لأن العلماء اعتبروه غريبا خارجا وافدا لكونه حنفيا من أبناء العريش، بالإضافة إلى أنه كان صوفيا خلوتيا، وكان من المتطلبات الضرورية في تلك الفترة، أن يكون الشيخ مقبولا اجتماعيا بين كبار العلماء.
أبلغ “العريشي” إبراهيم بك شيخ البلد آنذاك، أن “الدمنهوري” في فراش مرضه رشحه نائبا له، وتمكن “العريشي” من الحصول على تأييد الأمراء والشيخ “السادات” زعيم من زعماء الصوفية، وعينه الأمراء في المنصب.
غضب علماء مؤسسة الأزهر من تعيين “العريشي” التي كان يسيطر عليها الشافعية، لأنه غريبا خارجا، وكانوا يعتبرون أن المنصب من حقهم لأنهم الغالبية، ولا يحق للحنفية المطالبة به.
أرسل الشافعية بزعامة محمد بن الجوهري، شكوى لإبراهيم ومراد اللذين كانا يحكمان مصر، يطالبوا بتعيين الشيخ أحمد العمروسي “شافعي” بدلا من “العريشي”.
البكوات الذي كانوا معتادي التردد في أن يساقوا لمشاجرات العلماء، اعتبروا الشكوى تحديا لسلطتهم، فقال إبراهيم بك “من المستحيل أن يغير الصغار ما فعله الكبار”.
واعتبر الاعتراض على تعيين “حنفي” شيخا للأزهر شيء غير منصف وغير إسلامي “أليس الحنفية مسلمين، وأليس هذا هو أقدم مذهب؟، والأمراء والقاضي والباشا أليسوا حنفيين، وأليس السلطان نفسه ينتمي لهذا المذهب؟”.
بدت حجة “إبراهيم” معقولة، ومنصفة، وذهب العلماء لضريح الإمام الشافعي، ليلة الجمعة، وقضوا ليلتهم هناك.
وكانت هذه الزيارة المنظمة قد وصلت إلى حد المظاهرة بين علماء الشافعية ومؤيديهم من غير العماء ضد تدخل الأمراء في شئونهم الداخلية.
وجاء في الكتاب، أن المتحدث عن العلماء محمد بن الجوهري، كان يحظى باحترام الأمراء، إذ لم يسعى لصحبتهم ولم يطمع في هباتهم.
وأخبر “الجوهري” مراد بك باسم الامام الشافعي، بأن عليه أن يخلع رداء الشرف على “العروسي” باعتباره رأس الشافعية تماما كما كان الشيخ الدردير رأس المالكية، وبالفعل نُصب “العروسي” وصار مرموقا بعد ذلك، كما يقول الجبرتي.
ويروى “سليم” أن الحنفية ساندوا “العريشي” كما أيده الشيخ السادات والمغاربة، وتجمعت القوي غير الشافعية خلف “العريشي” ضد احتكار الشافعية للمنصب، وسقط “العريشي” فجأة.
وقع نزاع عنيف بين رواقين حنفيين في الأزهر، وهما التركي والشامي، وقتل فيه أحد الأتراك وجرح آخر، فشكا الأتراك لبكوات المماليك، فتعاطفوا معهم من قبيل الجنسية الواحدة، كما روى “الجبرتي”.
أمر “العريشي” بتحقيق في النزاع باعتباره مسئولا عن الشوام، لكنه بدلا من أن يقوم بتقديم مثيري الشغب، كما أمر، سلم قائمة بأسماء وهمية بينما هرب مرتكبو الحادث من الشوام، فخل من منصب كبير مفتي الحنفية، وتوفى بعد وقت قصير في بيته، وتولى شخص آخر الرواقي الشامي.
لم يُسمح لأبناء المجدل وطبرية بالعودة إلى الرواق وكان على الشوام أن يقدموا 100 رغيف من الخبز يوميا كفدية “دية” مقابل الدم، وهكذا أصبح “العروسي” شيخ الأزهر بلا منازع واحتفظ الشافعية باحتكارهم لمنصب شيخ الأزهر.