الآلة الموسيقية بالنسبة للغجري هي قلبه، لا تفارقه ولا يستغني عنها، فهي امتداد لكل العذابات والأفراح التي يلاقيها أثناء مواصلته للحياة ومخالطته لكل أجناس البشر في حله وترحاله.
الغجري المعاصر ترتكز موضوعات أغنياته حول الحب غير المتبادل والهجرة والهروب من التقاليد الحياتية الشديدة وشغفه في الحصول على متع الحياة .
ليس للغجري لغة موسيقية مشتركة، فهو يحفظ الأغنيات والموسيقى المحلية للشعوب الذي خالطتها وشاركها الحياة، ثم أضاف لها طابعه الخاص، فمنذ القرن الـ18 أصبح للغجري هيمنته الواضحة على الموسيقى، إلى أن أصبحت مهنته التي يتكسب منها قوته اليومي. واستخدمها في ممارسة الطب السحري، فتلصق عائلة المريض عملة ورقية على جبين العازف تعبيرًا عن امتنانها وشكرها.
إطلالة أولى
الموسيقى بالنسبة للغجري كديانته، تتأثر إلى حد كبير بما يعتقده الشعب الذي يعيش بينه، كانت أول إطلالة موسيقية غجرية على العالم خارج الهند من قبل الموسيقيين الذين أرسلهم الملك شانكال إلى الملك بهرام غور، وكانوا من أشهر عازفي آلة السيتار، فقد أحيوا الحفلات الموسيقية التي كانت تقام في قصور كبار الإقطاعيين منذ مطلع القرن الـ17، وطلبت العديد من الدول الفرق الموسيقية الغجرية للسير أمام الجيوش المتجهة نحو جبهات القتال، وتم استخدام موسيقاهم في مراكز التطوع لتحريك روح الحماس في روح الجنود، خاصة في حروب الدول العثمانية في البلقان مطلع القرن الـ 19 ميلاديًا.
لم يكن الموسيقيين الغجر مجهولين، بل كان لهم صيت واسع، فالملكة بياتريس في نهاية القرن الـ15 موسيقية غجرية، وكانت العائلات الغجرية تمارس عملها كفرق فنية جوالة في دول أوربية عديدة، لكن الغجري لم يعرف فكرة التدوين الموسيقي أو النوتة الموسيقية، لذا لم يحفل التراث الموسيقي الغجري بوجود كبير واندثر.
عصر ذهبي
القرن الـ18 هو العصر الذهبي للموسيقى الغجرية، بعد انصهارها مع الموسيقى الفلكورية الهنجارية، وأسست العائلات الغجرية فرق موسيقية خاصة بها، وطافت القرى والمدن، لتعزف الموسيقى الغجرية التي كانت أقرب لصيغة الموسيقى الشرقية.
خرج الموسيقيون الغجر من ثوب الموسيقى المهجنة المحلية للشعوب التي خالطوها، فبعد مرحلة إضافة صياغتهم الخاصة لتلك الموسيقى، إتجهوا لتشكيل وخلق موسيقاهم الخاصة، فألف الفنان يانوس بهاري مقطوعة “بهاري نوته” عام 1808 وعُزفت في احتفالية خاصة بالإمبراطورة ماريا لويزا، كما ألف مقطوعة” ريكورد مارش” التي استخدمن نشيدًا وطنيًا للمجر.
أشار بروسبا مارامي الذي يعتبر أول مؤرخ في تاريخ الموسيقى الغجرية في المجر، إلى أن الفرق الغجرية التي وصلت إلى المناطق البعيدة كانت تعزف الموسيقى في ساحات القرى، لكن هذه الحفلات كانت غالبًا تنتهي بشجارات ومعارك صاخبة، وهو ما يدفعهم للإنتقال الى قرية أخرى.
أما الموسيقار فرانز ليست في دراسته عن الغجر وموسيقاهم في المجر عام 1881، عد اللقاء الذي اعتبره صدفة بين الشعبين الغجري والمجري قد خلُص إلى موسيقى ذات قيمة لها شأنها، وهو ما أنكره علماء الموسيقى الغجريين فيما بعد مثل فيكي وجير جيلي وجول بلوش عالم الغجريات، وأكدوا أنه لا توجد موسيقى غجرية حقيقة في المجر، فالفلاحين المجريين لهم موسيقاهم الفلكورية الخاصة الموجودة قبل وصول الغجر بفترة طويلة، وفور وصول الغجر ومخالطتهم لهؤلاء الفلاحين مزجوا أغانيهم بالموسيقى الغجرية.
وفي منتصف القرن التاسع عشر أصبحت الموسيقى الغجرية ذات طابع خاص له شأنه المميز، واشتهرت في روسيا من خلال الرومانسيات وأحيا العازفون الغجر حفلاتهم في الحانات والخانات الواصلة بين الطرقات، وفي الأسواق والمهرجانات الشعبية وحفلات الزفاف، وتتوزع الفرق الموسيقية الغجرية في ألمانيا وهولندا وسويسرا وفرنسا وإسبانيا.
ويشير الكاتب العراقي جمال حيدر في دراسته عن الغجر، عن عدم اكتفاء الغجري بالعزف على آلة اللوت رغم براعته في استخدامها، بل عزف على الدف والطبلة والكمان الذي يكن له الغجري احترامًا عميقًا، وهو ما ظهر في الأساطير الغجرية عن ارتباط المكان بأصول الغجر منذ نشوء الخليقة الأول.
الغجر استخدموا في موسيقاهم آلات النفخ الهوائية كالناي والمطبك والمزمار والكلانيت، والآلات الوترية الكمان والبزق والربابة والجيتار، والعود أحيانًا، أما آلات الإيقاع تنوعت ما بين الطبلة والرق والدف، والأكورديون الذي يمثل ركنًا مهمًا في موسيقاهم في وسط وجنوب أوربا.
تنوع موسيقي
خالط الغجر الشعوب واستعاروا منهم الآلات الموسيقية والغناء وأضافوا لهم نكتهم الخاصة، ما أضاف لهم تنوع موسيقي، فاستعاروا من بلغاريا “الكوبزا” وهي آلة موسيقية تشبه آلة العود، وأضافوا لموسيقى الزفاف البلغارية روح جديدة، واستخدموا في رومانيا آلة تشبه المتنقل، وفي خلال القرون الأخيرة من تجارة الرومان بالغجر كعبيد، استبعد الموسيقيين الغجر ومنح الكثير من الامتيازات التي لم يحصل عليها الفلاح الروماني، وتم توظيف العازف الروماني في الفرق الموسيقية الكلاسيكية وشاركوه في الحفلات الموسيقية داخل رومانيا وخارجها.
الموسيقى الغجرية في رومانيا تميل للتعبير عن الأحزان والمعاناة والرثاء تعبيرًا عما لاقاه الغجري، كما حرض بموسيقاه على الأحلام وإشعال الحماس في ذاته المليئة بالهموم. وذلك من خلال طقوس خاصة ملحمية وشعبية، وطقوس تخص الأطفال وأعياد الميلاد والمناسبات الخاصة، وهناك نوعان من الموسيقى لدى الموسيقى الغجري، الأولى القديمة التي تتمركز حول الملاحم الشعبية لسير الأبطال المحليين وصفاتهم، والثانية المطعمة بموسيقى الجاز والغربية المعاصرة.
تيارات موسيقية
شكّل الموسيقي الغجري تيارات موسيقية مختلفة في عدة بلدان ودول، ففي روسيا في عهد الامبراطورة كاثرين كان له تيار موسيقي هامشي ومحاصر في داثرة الجماعات الغجرية، وبعد ثورة 1917 منح البلاشفة للموسيقي الغجري حريته، لتنتعش الموسيقى الغجرية وتضعها الدولة نصب أعينها، إلى أن جاء ستالين وسخر الطاقة الموسيقية للغجري في تجربته السياسية، لكن محاولاته فشلت.
أما في تركيا، فمزج الموسيقي الغجري الموسيقى الشعبية التركية بموسيقاه ونتج عن ذلك خليطًا راج وانتشر، واستخدم الآلات الشرقية كالعود والقانون، وآلات أخرى مثل الكلارنيت والدف، وفي إيران استخدم عددًا كبيرًا من الآلات الموسيقية الإيرانية المحلية الطنبورة والسنطور، وطوعهم ليلائموا موسيقاه، وطور الغجري الموسيقى البرتغالية والبرازيلية خاصة السامبا.
وفي فرنسا انفرد الغجري بالعزف على آلة “الهارب” وألف العديد من المقطوعات على هذه الآلة بعد تطويعها على سلمه الموسيقي، كما ساهم في بريطانيا في ترسيخ العديد من القيم في الموسيقى الرقص الفلكلوري، واشتهرت بعض أغانيه المعنية بوداع المسافر والاحتفال بالاعياد وبعض التقاليد والطقوس التي لها علاقة بالحياة اليومية.
كما اهتم الأمريكيون بموسيقي الغجر منذ عام 1921 ومُنح العديد من الموسيقيين زمالات ومنح دراسية وبحوث لعدد من الموسيقيين الغجر، واهتم الموسيقيين الأمريكيون بالموسيقي الغجرية، واستمرت تلك الموجة في موسيقى الجاز والبوب.
وفي مصر عملت العائلات الغجرية في إحياء الأفراح وحفلات المناسبات الخاصة والموالد. ونهل الغجري من تراث الغناء الشعبي ما يوافق سليقته، واحترف غناءه، وعزف على الربابة والمزمار. وفي العراق أشار الكاتب العراقي جمال حيدر إلى الغناء الغجري انحصر في دائرة الغناء فقط من خلال الأفراح التي يحييها الغجر، أو في الحفلات التي تقام في أماكن إقامتهم التي تكون في مداخل المدن الكبيرة، ويُسمى الغناء الغجري هناك باللغة الشعبية “الكاولية”.
مطربين ومطربات
ظهرت بعض فرق الغناء الغجرية في العراق وحققت شهرة واسعة، كفرقة الفنانة حمدية صالح، وفرقة شكرية خليل شياع، وفرقة ريم محمد سوادي، وفرقة ساجدة عبيد، إلى أن ظهرت المطربات المنفردات مثل سورية حسين وصبحية ذياب وغزلان وغيرهن.
كان الظهور الأول للمطربة سورية حسين من راديو بغداد في بداية صيف 1936 باسم مستعار “بنت الريف” لتغني أغنية “بسكوت أون بسكوت” وذاع صيت الأغنية لدى الجمهور، وأعادت الإذاعة بثها مرارًا وتكرارًا طوال اليوم، وكان أول من قدمها الموسيقار الراحل جميل بشير وسجل لها مجموعة من الأغنيات منها “أنا وياك”، “عشوملي”،”يا ماخذات”.
وساعدت “حسين” الغناء الغجري بالانتشار على مستوى الإذاعة والتلفزيون، وطُلبت “حسين” لإحياء حفلات الزواج والمناسبات الخاصة في بغداد ورافقها الراقصات الغجريات، وشاركت مع المطربة فايزة أحمد في غناء الأغنية العراقية “ما يكفي دع العين”، إلى أن تركت الغناء بعد زواجها من أحد الأطباء.
وفي نهاية التسعينات كان الملحن صباح زياره يقدم برنامجًا تلفزيونيًا لتلفزيون العراق، وبحث عن سورية حسين في النهروان( مدينة جنوب شرق بغداد)، ووجدها تعيش في بيت فقير وكبُر سنها وتبيع السجائر في الطرقات، وروى أنه طلب منها الذهاب لوزراة الثقافة العراقية، لكن مسؤولة الاستعلامات طردت “سورية” فكانت ملابسها رثة فظنت الموظفة أنها متسولة، وبعد أن عرفت مسئولة الاستعلامات أنها الفنانة سورية حسين، بكت واعتذرت لها، واستقبلها موظفي الوزارة وأدرج اسمها بين قوائم الفنانين للحصول على راتب شهري، لكنها رحلت.
وظهر المطرب الغجري “بلال” واسمه الحقيقي “بن بلا الحنطير” في مقابلة مع قناة العربية، وحكى عن رحلته من صبي يعمل كماسح للأحذية في منطقة الكسليك شمال بيروت، لبنان.
كان للصدفة دور في انتقاله من الشارع لمسارح الغناء، بعدما الفت إليه الموسيقي والمنتج اللبناني ميشال الفتريادس، عندما مر بجواره في الوقت الذي كان يغني فيه “بلال” أغنية غجرية وهو منهمك في تلميح أحذية الزبائن، فأعجب به، وطلب منه المجيء لمكتبه، وأرسله لتعلم الموسيقى لدى أحد كبار الأساتذة على نفقته المنتج اللبناني.
وحقق “بلال” من طرح أسطوانات أغنياته مبيعات كبيرة، منها أسطوانة “الأمير الغجري” ولاقت إقبالًا كبيرًا، وعبّر “بلال” عن رغبته في دخول عالم التمثيل أيضًا.