غيرت التوابل إلى الأبد عادات الأكل لدى الشعوب التي اكتشفت تجارة جديدة في عالم الطهي، نتيجة لتلك التجارة التي غيرت نهج وطرق إعداد الطعام وتناوله.
لكن الشعر والأدب والسياسة لم يخلو من التوابل، فكتب بعض الشعراء شعرهم للتوابل، وأمر الملوك والسياسيين بعض المستكشفين للإبحار واستكشاف أنواع من التوابل أو استنباتها، كما استخدمت كهدايا بين الملوك.
الأشعار والحكايات لا تخلو من التوابل
الشاعر الإيرلندي توماس مور، يقول: “هذه الطيور التي تهبط في وقت التوابل، في الحديقة ثملة بهذا الطعام العذب، الذي جذبهم عطره فوق فيضان الصيف، وتلك الطيور تحت أشعة الشمس العربية الرقيقة، تبني أعشاشها المبطنة بـ”القرفة”.
المؤرخ اليوناني هيرودوس، كتب عن “القرفة” التي اكتشفها الفينيقيين، الذين زعموا أن الطيور هي التي أتت بالقرفة إلى الجزيرة العربية، لأن الطيور حملتها إلى أعشاشها على حواف الجبال، ولكي يحصل العرب على “القرفة” قطعوا جثث حيوانات كبيرة ووضعوها على الأرض قرب العش، ظنًا منهم أن الطائر عندما يأخذ قطع اللحم لعشه، فوزن اللحم سيتسبب في انكسار العش وبالتالي تسقط “القرفة” إلى أسفل الجبل، وفي حكاية أخرى، أن الطيور استعملت “القرفة” لبناء العش على الأشجار، وكان السكان الأصليين يطلقون السهام ذات الرؤوس الرصاصية لتحطيم العش لتسقط “القرفة” إلى الأرض.
وروى آما تيوفارستوس، أحد تلامذة أرسطو الملقب بـ”أبي علم النبات”، حكاية أخرى عن “القرفة”، يقول فيها أن منشأها يعود إلى الجزيرة العربية، ونمت على أشجار في أماكن تحرسها أفاع سامة، وكان لابد على من يحصل على “القرفة” أن يقسمها إلى 3 أكوام، ثم يختار اثنين بسحب القرفة ويقدم الباقي كتقدمة لإله الشمس كي يحميهم من الأفاعي في المرات القادمة.
واكتشف الرومان في مصر القرن الأول الميلادي، عندما كانوا هناك أن عالمًا جديًدا من التوابل فقد كان المصريون يستخدمونها في لقرون عديدة في طقوس وشعائر الدفن.
وفي الفلكور المالوكي تعامل القرويون مع أشجار القرنفل المزهرة وكأنها امرأة حامل، فلا يسمح لرجل بالاقتراب منها مرتديًا القبعة، ولم يسمح بإحداث صوت أو ضجيج عند الاقتراب منها، ولا يمر أي ضوء أو نار قربها في الليل خوفًا ألا تحمل الثمار، وما زال بعض المالوكين يزرعون شجرة “القرنفل” عند ولادة أي طفل، اعتقادًا أنه إذا ازدهرت الشجرة فأن حياة الطفل ستزدهر أيضًا، ويعتقد بعض سكان جزر الهند الشرقية أن وضع “القرنفل” بين فتحتي الأنف أو بين الشفاه لا تدخل الأرواح الشريرة إلى أجسادهم.
وروى فريد كزارا في تاريخ التوابل، أن الأوربيون عندما التفتوا إلى التوابل، كان من خلال السياق الديني، فاعتقدوا أن “الفلفل” ينمو في غابات الخيزران في سهل قرب الجنة، أن صيادي السمك المصريين كانوا ينقلون “الزنجبيل ” و “القرفة” بإلقاء شباكهم في مياه الطوفان من النيل، وبذلك يحضرون التوابل التي من الجنة مباشرة، وأن رائحة التوابل هي نفس ينقل بسلاسة إلى عالم الإنسان، ولم يستطع أي كاتب من العصور الوسطى أن يتصور الجنة بدون طعم التوابل أو رائحتها.
التوابل بديل عن الأموال
لم تستخدم التوابل في الطعام فحسب، بل كان لها قيمة اقتصادية كبيرة، وتحل محل العملة، فكانت جزءًا أساسيًا في نمو الاقتصاد الأوربي، ولها قيمة نسبية، ففي ألمانيا 1393، واحدة من جوز الطيب كانت تساوي قيمة 7 ثيران.
وفي القرن الحادي عشر، استخدم “الفلفل” كوسيلة لدفع رسوم دخول السفن في بيلنغز غايب (سوق السمك في لندن) للملك إيثيليرد، وكانت حبات “الفلفل” وسيلة مقبولة لدفع الايجار والرسوم في بعض المدن الأوربية التي اعتمدته في حساباتها، وكان بعض المزارعين في إنجلترا يدفعون إيجارهم بباوند واحد من الفلفل، وهي كمية تعادل أجر ثلاثة أسابيع في تلك المهنة. وكانت تدفع كعربون لاستئجار مكان مان، ونتج عن ذلك ظهور”إيجار حبات الفلفل” وعندما حاز الأمير تشارلز على لقبه كدوق كونويل في عام 1973، كان باوند من “الفلفل” جزءًا من التقدمة التي حصل عليها.
بعد سياسي للتوابل
الحملات الصليبية أشرفت على استيراد الطباخين العرب إلى مطابخ الفرنجة من صفوة المجتمع في مدن الشرق الأوسط مثل القدس وعكا، وكانت هناك صلة وثيقة بين الموسيقى والرقص والطعام في المآدب الضخمة خلال تلك الفترة، كما استخدم الفرنجة الصليبيون بهارات مثل القرفة وكبش القرنفل والزعفران لاستعراض غناهم الفاحش.
وعندما زار ويليام الأول ملك اسكتلندا ملك إنجلترا ريتشارد الأول عام 1149، تلقى منه هدية، باوندين من الفلفل وأربعة باوندات من القرفة.
تنافست بعض الدول مثل البرتغال وإسبانيا وهولندا وبدرجة أقل فرنسا والدنمارك على سوق التوابل في منطقتين من العالم، هما جنوب آسيا وجنوبها الشرقي، وكانت جهود هذه الدول للسيطرة على جزء أكبر من تجارة التوابل العالمية، وشملت نصفي الكرة الأرضية الغربي والشرقي، وكانت هناك محاولات لإيجاد طرق شمالية وجنوبية للوصول إلى أرض التوابل، وبزيادة التنافس الدول في القرنين السادس والسابع عشر، تطور السعي وراء التوابل إلى ما يمكن تسميته “الحرب العالمية الأولى”.

تاريخ التوابل
وفي القرن السادس عشر استمر البرتغاليون بالانتقال شرقًا باحثين عن جزر التوابل ومسارات تجارتها في شرق وجنوب آسيا، وأثبتت محاولاتهم نجاحها، وسيطروا على مالقة عند الطرف الجنوبي الغربي لشبة جزيرة مالاي، واستمروا في نجاهم في عالم التوابل باستخدام الأسلحة، ولكنهم أدركوا أن الكثير من القوى المتمركزة على اليابسة في آسيا لم يهتموا بالبحر، وإلا لكانوا دخلوا في منافسة مع ممالك ومناطق متمركزة على اليابسة مما سمح للأيبيريين بالازدهار في البحر، لكنهم لم يسيطروا على تجارة التوابل بل أخذوا حصتهم منها نسبة 5 في المائة من تجارة التوابل على طول ساحل ملابار في الهند.
وطاف المستكشف الإسباني فرديناند ماجلان حول الأرض بأمر رسمي من الملك الإسباني لإيجاد التوابل أو المفاوضة للحصول عليها، وكان هناك شخص يدعى أنطونيو بيغلفيتا على متن سفينة “ماجيلان” قام بإفشاء معلومات عن التوابل عندما تابعت البعثة طريقها عبر الجزر، وبعد رحلته، عاد الرحالة الإسباني بسفينة محملة بكبش من القرنفل، ولم يتسنى لسفينة أخرى أن تصل إلى شواطئ إسبانيا بسبب حمولتها الزائدة، ولم يرضى ملك إسبانيا عن الحصول على توابل من الدرجة الثانية، فأمر بالإبحار والبحث عن توابل جديدة من الفيليبين وفي مستعمراتهم في أمريكا اللاتينية أو يحاولوا استنبات بعض التوابل في الأراضي التي حكموها.
وكان استنبات التوابل مشروعًا مهما قام به الإسبان قرب مستعمراتهم الأمريكية والمعروفة “بإسبانيا الجديدة”. ومنحت في خمسينيات القرن السادس عشر-إسبانيا الجديدة- الحق الحصري لزرع بذور الفلفل الأسود والقرنفل والقرفة والزنجبيل.