كان الكاتب “أحمد خالد توفيق” الملقب من قبل محبيه بـ”العراب” منشغلًا بالموت، في أعماله الروائية، وعكس انشغاله على شخوصه وأبطال روايته، فجاء على لسان أحد أبطال سلسلة رواياته الشهيرة “ما وراء الطبيعة” :”لو صحوت يومًا فوجدت هذا الرجل مات لشعرت أن العالم ينهار”.
بالنسبة لنا كان المشهد مباغتًا، لكنه كان يحس ويشعر به، فكتب كثيرًا عن اللعبة العظمى “الموت” وجربه على الورق، وعايش لحظات خوفه وهواجسه منه، وبحس إيماني عميق أعلن عن ذلك بوضوح قائلًا: «أنا يا رفاق أخشى الموت كثيراً»، وعقب أيضًا:« كيف لا أهاب الموت و أنا غير مستعد لمواجهة خالقي ؟ إن من لا يخشى الموت هو أحمق أو واهن الإيمان»
ينشغل الأديب بذاته، التي تعكس ما يدور حوله في عالمه المحيط، فيتفاعل مع الواقع ويتأثر به ويؤثر فيه. لكنه بحسه وإدراكه قد يسبق أحداث الواقع، فتنبئ ببعض الحوادث وقد يصيب أو يخطئ.
الموت لم يغب عن بال أحمد خالد توفيق
وفي رواية “يوتوبيا” قال أحمد خالد توفيق: “الموت اللعبة العظمى التي لم نجربها بعد” وفي رواية طروادة من سلسلة فانتازيا قال: “الموت يختار ببراعة، يختار الأفضل والأنبل والأشجع”
واحتل “الموت” عناوين بعض أعماله “توفيق”، فصدر له رواية “رقصة الموت” عن المؤسسة العربية الحديثة عام 2001، وتناول فيها علاقة الموت بالرقص عند الأفارقة :” إن الأفارقة يرقصون دومًا، يرقصون للفرح ويرقصون للحزن، يرقصون للحب ويرقصون للمقت، يرقصون للحياة ويرقصون للموت”، وبعدها بتسع سنوات صدر له ضمن له سلسة عالم ما وراء الطبيعة العدد الرابع والسبعون رواية “أسطورة أغنية الموت”.
وكتب قصصه القصيرة بعنوان “معرض الموت”عام2016، وجاءت رواية “سباق الموت” عام1980 ضمن سلسلة الرجل المستحيل.
وفي كتابه “قصاصات قابلة للحرق “الصادر عن دايموند بوك عام2007، تناول “توفيق” فكرة الانتحار فقال:” ورقة في درجي كتبتها في السابعة من عمري أودع فيها العالم لأنني قررت الانتحار، أصابني الهلع: ترى هل انتحرت فعلًا بعد ما كتبت الورقة ؟، ربما أشعر أحيانًا بأنني جثة نخرة». ولم يغيب الموت عن باله كما هو في مختلف أعماله فقال في نفس الكتاب:” ثلاثة يكسبون من فكرة الفرار من الموت، الطبيب يكسب من الأمل في الفرار، مندوب التأمين يكسب من اليأس من الفرار، والحانوتي يكسب من فشل الفرار.
فكرة الموت عن أحمد خالد توفيق ونجيب محفوظ
فاز “توفيق” بجائزة الرواية في معرض الشارقة للكتاب في نسخته الـ35عن روايته “مثل ايكاروس” الصادرة عن دار الشروق 2015. وعقب تسلمه الجائزة أعلن أحمد خالد توفيق أن مثله الأعلى في الإبداع الروائي صاحب نوبل نجيب محفوظ.
هناك ثمة اختلافات بين أحمد خالد توفيق وصاحب نوبل تجاه فكرة “الموت”
كانت المواجهة الأولي لـ”محفوظ” للموت غير متكافئة وحادة وغير منطقية، فكان لايزال طفلًا في السادسة من عمره، و توفى ابن اخته وهو في سن الرابعة إثر اصابته بمرض، فاستعصي عليه فهم كينونة الموت فانخرط في البكاء، حسبما جاء في كتاب “نجيب محفوظ.. رحلة الموت في أدبه” للناقد حسين عيد.
أما اللقاء الثاني، فكان “محفوظ” قد نضج فكريًا وكبُر علقه، حيث تخرج من قسم الفلسفة بجامعة القاهرة ويستعد لرسالة الماجستير حول التصوف في الفلسفة، ورجح “عيد” في كتابه أن الموت هذه المرة قد حفز “محفوظ” لكتابة أول قصة له عن الموت عام 1945، بعنوان “صوت من العالم الآخر”
وقال عيد في كتابه أن رحلة الموت شغلت 58 حلما من «أحلام فترة النقاهة» التي صدرت في كتاب عام 2005 متضمنة 146 حلما أي أن الموت شغل نحو 40 بالمئة من كتابات محفوظ في السنوات العشر الأخيرة بعد نجاته من محاولة اغتيال في أكتوبر 1994.
انشغل “محفوظ “بالموت، وانشغل أحمد خالد توفيق أيضا بالموت، وعبر كل منهم عن مخاوفه تجاهه، إذن اين هذا الاختلاف بين رؤية كلًا منهم؟
كان خوف “محفوظ” من منطلق وجودي وهو” الوحدة”، فعندما كتب في أولى مراحل الشيخوخة مجموعة “شهر العسل” رأى الموت على أنه أزمة تخص الفرد وحده، ذلك ان المرء يعلم ان الموت اذا اتاه فانه يذهب وحيدا كما ولد وحيدا فلا غرابة بعد ذلك ان يقف الانسان مفكرا في هذا العالم الذي لن يكترث لوفاته.
وتصالح “محفوظ” في أيامه الأخيرة مع الموت فكان يردد: “أرى انني اقمت حياتي، على أساس الحب، حب العمل، حب الناس، حب الحياة، وأخيرًا حب الموت”
وبلغت درجة هذا التصالح إلى انه أشرف على بناء قبره بنفسه واختار له تصميمًا بسيطًا، ورفض بعد حصوله على نوبل أن يتم تغير التصميم، وداوم على زيارته كل عام خلال شهر رمضان مع صديقه “توفيق صالح” الذي كان من ضمن مجموعة الحرافيش.
أما خوف أحمد خالد توفيق من منطلق عقائدي وإيماني بحت، فقال :” كيف لا أهاب الموت و أنا غير مستعد لمواجهة خالقي ؟ إن من لا يخشى الموت هو أحمق أو واهن الإيمان” . كما أنه وصف من يرددون في فخر طفولي أنهم لا يهابون الموت بـ”المدعين” .
“الجنس البشري هو الوحيد الذي يعرف أن لابد من الموت، وهو لا يعرف ذلك الا بالاختبار” يقول “فولتير” في أطروحته عن الإنسان، وهو يؤكد على أن الإنسان وحده يعرف ان لابد له من الموت، فيبدو له الموت حادثًا حتميًا، جزءًا لا يتجزأ من شروط الجنس البشري، فقد تلقى ولادته دون أن يريدها، وكذلك موته ضرورة لا مهرب منها، فالذي يرضى بالحياة في الوقت نفسه يرضى بموته.
كان أحمد خالد توفيق يؤمن بما قاله “فولتير” رغم تخوفه من الموت، وعدم تصالحه معه، لكنه يعرف انه لا مهرب، ولابد من الاستعداد، ففي حواره مع موقع “مصراوي” عندما سُأل عن أحلامه، فرد:” لقد تجاوزت مرحلة الأحلام، منذ مرضت عام 2011، وأشعر أن المسرحية انتهت، فلا يوجد سوى الوقت الذي أغلق فيه الحقيبة وطي الجريدة و الاستعداد، ولا أستطيع الخلاص من نفسية المسافر هذه”.