17 ديسمبر 1984، رن هاتف الموسيقار بليغ حمدي، مكالمة من أحد أفراد عائلة “تاز” المغربية: “نحن في القاهرة”، أجاب “أدعوكم لحفل الليلة في شقتي بالزمالك”.
حضر السهرة فتاة مغربية، لم يلتق بها من قبل أبدا، وصلت القاهرة في 14 ديسمبر 1984.
ليلة 18 ديسمبر1984، كعادته، احتفي الموسيقار بليغ حمدي بليلة هانئة، بدأت في الحادية عشرة مساًء، شاركه فيها الموسيقار فتحي سلامة، ويسري الحامولي، وكامل البيطار والكاتب المسرحي بهجت قمر، ومدير أعماله محمود سيد علي، وأشخاص مغاربة وجزائريين وسعوديين. بانتهاء الليل، الرابعة فجرًا، انصرف الجميع، إلا فتاة نال منها الخمر والغناء، فاستراحت في حجرة شقيقة “بليغ” المطلة على الحديقة الخلفية للعمارة.
ودّع محمود سيد الضيوف، تحركوا للمطار في دفعتين، للسفر إلى المغرب.
صبيحة اليوم التالي، 19 ديسمبر، 1984، الثامنة والنصف، مديرة أعمال شقة “بليغ”، صباح حمادة، فوجئت بملابس نسائية ملقاة في الصالة، ملابس داخلية وفرو. طرقت باب الفتاة لمرات عديدة، فلم تستجب، ففتحت الباب لتصدم. بملابس مبعثرة، لا أحد في الحجرة، النافذة مفتوح على غير العادة.
مالت “صباح” برأسها من شباك الحجرة، قبل أن يصل مد رؤيتها للأرض، هلعت من منظر جثة عارية ملقاة على وجهها، أسرعت لتخبر بليغ حمدي، صرخت: “جثة فتاة في حديقة بير سلم العمارة”.
فزعًا هاتف “بليغ” صديقه اللواء مصطفى الصباحي، بقسم العجوزة – وهو شقيق الفنانة “ماجدة”- وأبلغه بالحادث.
النيابة تحقق في الحادث
انتقل حلمي الفقي مدير المباحث الجنائية والعميد إبراهيم راسخ رئيس المباحث رئيس المباحث، والعميد محسن جبر وكيل المباحث الجنائية، وتحفظوا على ما تبقى من زجاجات الخمر والملابس الداخلية للفتاة المغربية، وأخطروا نيابة العجوزة.
استدعى عثمان عبد التواب، مدير نيابة العجوزة، الموسيقار بليغ حمدي، ليستمع لأقواله.
منهكًا من حالة الإعياء الشديدة، اعترف “بليغ” أمام النيابة، أن الفتاة المغربية حضرت رفقة مجموعة من الضيوف المغاربة، وغادروا دون أن تغادر، وأنه لا يعلم عن هذه السيدة شيئا ولم يسبق له أن التقى بها من قبل سوى ليلة الحادث عندما حضرت برفقة أسرة مغربية يرتبط معها بصداقة. ولم يشعر بأي صوت غريب خلال نومه.
لم تخرج أقوال، مدير أعماله محمود سيد علي، وسعيد محمود عطيه “الطباخ”، وصباح عارف “مدير الشقة”، عما اعترف به “بليغ”. حسبما نشرت جريدة “الجمهورية” 19 ديسمبر 1984.
أفرجت النيابة عن “بليغ” بلا ضمان، وقررت التحفظ على محتويات شقته، ونقل جثة القتيل لمستشفى أم المصريين، لمعرفة أسباب الوفاة. وتابع رجال المباحث التحريات لفك غموضها. واستدعى جيران “بليغ” لسماع أقوالهم عن الحادث، قال أحدهم ويدعى أحمد الإمبابي “محامي”:” الفنان دائم السهر، يقيم الحفلات الصاخبة حتى الصباح”، وادعى آخر يدعى محمد بهنسي، أنهم اشتكوا من صخب الحفلات، وشهد محمد سليمان “أحد الجيران” بأن الحفلات كانت تعج بأعداد كبيرة من الفنانين والفنانات.
مفاجأة الحادث
كشف نيابة العجوزة في 20 ديسمبر، بعد معاينة مبدئية لجثة الفتاة المغربية، أنها تخلو من أي كسور ظاهرية.
باشر عثمان عبد التواب مدير نيابة العجوزة التحقيقات في الحادث، وانتقل مع العقيد محسن جبر والعقيد ممدوح هنداوي وكيلي المباحث حيث عاينوا جثة سميرة مليان واسفرت المعاينة عن وجود آثار دماء من الفم وتسلخات وكدمة زرقاء بالذراع كما وجدت الجثة في حالة تيبس ولا توجد بها آثار ظاهرة لكسر أو إصابات سوى احتقان بالوجه، ولم يعثر داخل حقيبتها على نقود سوى زجاجة بارفان وعدة صور لطفليها وأشخاص آخرين.
رجح “بليغ” أن يكون افراط الفتاة المغربية في تناول الخمر هو ما أدى إلى فقدها لتوازنها وسقطوها من شرفة الحجرة، ولم يعلل سبب وجودها عارية.
أيده في أقواله مدير أعماله محمود سيد على، وأضاف أن المتوفاة ظهرت عليها آثار السكر وانعدام الوزن فأخذت تغني وتجذب بعض الشيف لمشاركتها في الرقص وانصرف لتوصيل بعض الضيوف بعد أن اقترب موعد سفرهم للخارج.
أصدر مدير النيابة قراره بنقل الجثة لمستشفى أم المصريين وصرح بدفنها بعد تشريحها، وبيان مابها من إصابات وسببها وتاريخ حدوثها والآلة المستخدمة وما إذا كانت الوفاة بها شبهة جنائية من عدمه. كما أمر اللواء محمد حسين مدير الأمن الذي تابع ظروف الحادث اخطار مباحث أمن الدولة للبحث عن مكان إقامة السيدة المغربية منذ وصولها مصر 14 ديسمبر 1984.
وفي 21 ديسمبر 1984، نشرت “الأهرام” أن المفاجئة الجديدة في الحادث، اكتشفها رجال المباحث، إذ لم يعثروا على الملابس الداخلية لها ضمن متعلقاتها التي عثر عليها وتم تحريزها.
رفض عبد العزيز سعودي، سكرتير أول سفارة المغرب، استلام جثة الفتاة المغربية لحين الاتصال بأسرتها واخطارها بالحادث وترك حرية الاختيار لهم، إما دفنها بالقاهرة أو نقل الجثة إلى المغرب، ونفى ممثل المغرب في القاهرة تلقيه اخطارا رسميا بالحادث، قال: “علمت بها عن طريق الصحف”.
وكان سكرتير أول السفارة المغربية قد التقى بالعقيد فيليب عبد الملاك مأمور قسم العجوزة الذي عرض عليه استلام متعلقات الفتاة المغربية، فرفض استلامها فيما عدى جواز سفرها وهي عبارة عن خمسة أسارو ذهبية وخاتم وتايير من الحرير الصيفي كانت ترتديه قبل الحادث وحذائها وجوربها وحقيبة يدها عثر عليها مبعثرة داخل حجرة نوم معدة للضيوف بينما تبين من خلال حصر متعلقاتها التي قام بها المقدم مصطفى العرقسوسي نائب المأمور عدم وجود ملابسها الداخلية مما يشير إلى علامة استفهام من حولها وهل كانت بدونها أم امتدت إليها يد مجهولة واخفتها؟
وقررت نيابة العجوزة بناء على اقتراح اللواء محمد حسين مدير مساعد وزير الداخلية الذي يتابع تطورات عمليات البحث احضار ضيوف الملحن الذين سافروا قبل اكتشاف الحادث لسماع أقوالهم.
ومن ناحية أخرى، قاد العميد إبراهيم راسخ رئيس المباحث والعقيد سامح أبو الليل مفتش المباحث والمقدم محمد العشماوي رئيس مباحث العجوزة والرائد محمود عبد الخالق معاون المباحث بإشراف العميد حلمي الفقي مدير المباحث فريقا للبحث لمحاولة التأكد من صحة شائعات تدور عن، قصة مطاردة المجني عليها الموسيقار بليغ حمدي منذ 3 أشهر. وكان آخر ما رُوج، أنها هاتفته من باريس، ورفض “بليغ” التحدث إليها، واعتذرت “صباح” مدير الشقة: ” الأستاذ غير موجود الآن”.
وبدأت أجهزة البحث التأكد عما إذا كانت الفتاة المغربية قد حاولت اقتحام حجرة “بليغ” الذي تركها مع ضيفين آخرين، وأوى إلى فراشه ثم أقدمت على الانتحار بهذه الطريقة للانتقام منه اعتقادا منها بأنه يحاول التهرب منها.
تبين من خلال فحص بطاقتها الوطنية أنها تقيم بزنقة “تراتسوا لوسارحي” بالدار البيضاء، وأنها كانت طالبة عندما استخرجت البطاقة عام 1977.
فك الغموض
بدأت أجهزة البحث توالي تحرياتها حول الحادث للكشف عن غموضه، لماذا أقدمت المجني عليها الانتحار بهذه الصورة إذا كانت انتحار؟ وهل تناولت خلال الحفل شيئا مثل حبوب الهلوسة لم يسبق لها أن تعاطتها من قبل فدفعها إلى الانتحار دون أن تدري؟ وأين اختفت ملابسها الداخلية؟ ومن له المصلحة وراء اختفائها؟ ولماذا تركها باقي الضيوف وانصرفوا بدونها على الرغم من أن الملحن قرر في التحقيقات أنه لم يسبق له أن التقى بها من قبل؟، ولماذا لم يكتشف الخدم وجود متعلقاتها مبعثرة إلا صبيحة اليوم التالي؟ على الرغم من ضرورة وجودهم في المنزل لتلبية مطالب الضيوف وحتى ينصرف آخرهم بعد أن أوى المضيف إلى فراشه، وأخيرا لماذا لم يتم تحريز مناديل هاندي التي عثر عليها بحجرة النوم؟.
في 22 ديسمبر 1984، قررت نيابة العجوز، اتخاذ طريق آخر للتحقيق، وبدأت إعادة سؤال جميع العاملين في مسكن الملحن بليغ حمدي، وقررت سماع أقوال الكاتب بهجت قمر وصلاح البيطار وكذلك سكرتير أول سفارة المغرب في القاهرة.
وبحثت النيابة خلال التحقيقات حول 3 احتمالات، حتي يصل التقرير النهائي للطبيب الشرعي، وهي، إذا كانت السيدة قد تعرضت لجريمة قتل؟ أو أصيبت بحالة تسمم نتيجة إفراطها في الشراب؟ أو أقدمت على الانتحار وهي في حالة من اللاوعي؟.
وواصل رجال المباحث تحرياتهم للتحقيق من شبهات كثيرة، من بينها أن زيارة الفتاة المغربية للقاهرة لم تكن الأولى، سبق وأن زارت القاهرة عام 1983، بالإضافة إلى محاولة التأكد من انها هي المرة الأولى التي تتردد فيها على شقة الفنان بليغ حمدي.
نواصل استكمال القضية في حلقات قادمة.